“حرب الناقلات” في الثمانينيات (1 من 5)

“حرب الناقلات” في الثمانينيات (1 من 5)

“حرب الناقلات” الجارية في البحر الأحمر حالياً، سبق أن حصلت نسخة منها في منتصف ثمانينات القرن الماضي، في خضم الحرب “العراقية – الإيرانية” (1980-1988)، عندما استهدفت القوات الجوية للرئيس صدام حسين، مواقع إيرانية، وردت طهران باستهداف مواقع خليجية، فاندلعت “حرب ناقلات” في مياه الخليج.

وقتذاك، كانت المنطقة مختلفة والعالم أيضاً، بما في ذلك سوريا. حاول الرئيس حافظ الأسد الذي كان يقف ضدّ صدام في حربه، التوسط بين طهران ودول عربية، لوقف “حرب الناقلات” ومنع اتساعها، عبر هدن وتفاهمات.

تبدأ “المجلة” بنشر حلقات من وثائق رسمية سورية تتضمن رسائل بين الأسد وقادة عرب وإيرانيين. لا شك في أنها لا تعكس كل ما كان يدور في تلك السنوات العاصفة، لكنها تعطي فكرة عن بعض جوانب ما كان يجري في الغرف المغلقة.

هذه الوثائق، التي كتبت من منظور سوري للأمور، تكشف تفاصيل لم تكن معروفة عن مواقف الأطراف واتجاهاتها. بينها أن “المرشد” علي خامنئي، الذي كان رئيس إيران وقتذاك، تنبأ أكثر من مرة عام 1986، بأن صدام سيتغير، وأن حكماً جديداً سيتشكل في العراق. كما ظهرت تحذيرات سعودية صريحة من أن سلوك إيران بضرب سفن سعودية وخليجية سيؤدي إلى جلب الأميركيين عسكريا إلى مياه الخليج، وهو ما حدث.

وتسبب ضرب إيران للناقلات الكويتية بإرسال أميركا قواتها البحرية إلى المنطقة ودخلت في القتال بقصف مواقع إيرانية، وانتهت الحرب العراقية- الإيرانية عام 1988. أما صدام فبعد فشل غزوه إيران احتل الكويت، وتشكل تحالف دولي لتحرير الكويت، كما أزيح صدام عن الحكم في ربيع 2003.

وبعد حوالي أربعة عقود، يتكرر التاريخ وتعود إيران إلى ضرب الناقلات عبر ميليشياتها الجديدة “الحوثية” في البحر الأحمر. والتهديد بغلق باب المندب قابلته أميركا بتشكيل حلف عسكري اسمه “حارس الازدهار” وتوجه ضربات انتقامية لوكلاء إيران في اليمن وسوريا والعراق.

في مطلع يناير 1982، أي بعد سنتين من الحرب بين بغداد وطهران، زار وزير الخارجية الإيراني علي أكبر ولايتي دمشق، والتقى الرئيس حافظ الأسد ووزير الخارجية وقتذاك عبدالحليم خدام. وحسب محاضر اجتماعات رسمية، أكد الأسد “ضرورة تهدئة الوضع مع دول الخليج والأخذ بالاعتبار ظروفها ومخاوفها، لأن التوتر سيزيد من حجم تعاونها (دول الخليج) مع النظام العراقي”.

وحذر الرئيس السوري السابق الإيرانيين من أن “توسع رقعة الحرب سيؤدي إلى تدخل قوات خارجية للسيطرة على المنطقة وعلى مواردها”، كما تحدث عن “هواجس الأشقاء في الخليج”، و”حرص هذه الدول على إقامة علاقات جيدة مع إيران”. وطلب الأسد من ولايتي “إبلاغ القيادة الإيرانية وجهة نظر سوريا”.

بالفعل التزمت إيران في البداية، بـ”عدم توسع الحرب باتجاه دول الخليج، رغم بعض التوترات التي كانت تظهر بين وقت وآخر، وتقترب من خط الصدام”، حسب وثيقة سورية. وأشارت إلى أنه عندما نشبت الأزمة بين إيران والبحرين عام 1980 “تدخلت سوريا، وعملت على تهدئة الوضع، وقد وافقت القيادة الإيرانية على زيارة يقوم بها نائب رئيس مجلس الوزراء الدكتور صادق طبطبائي إلى المنامة برفقة خدام، للقاء الشيخ عيسى بن سلمان، حيث أكد نائب رئيس الحكومة الإيرانية أنه ليس لإيران مطامع في البحرين، وأنها ترغب في إقامة علاقات طيبة مع المنامة”.

بالعودة إلى زيارة ولايتي لدمشق، يوم 10 يناير 1982، توجه خدام إلى السعودية بتكليف من الأسد، للقاء ولي العهد الأمير فهد بن عبدالعزيز، وإطلاع القيادة السعودية على نتائج زيارة ولايتي.

ويروي خدام أنه قال في الرياض: “الرئيس حافظ أبلغكم بأنه سيبحث العلاقات بينكم وبين إيران.

وجرت اتصالات بهذا الشأن، وكان الاتفاق على مجيء وزير الخارجية الإيراني إلى دمشق وخلال جلستي عمل مع الرئيس ومعي تحدث الرئيس مطولا، وأراد أن يتسم الحديث بالوضوح، وفي إطار مصلحة الطرفين طرح الأسد للوزير الإيراني الوضع في المنطقة والأخطار المحدقة بها، وتحدث عن الصراعات الجارية وانعكاساتها على المنطقة كلها، وأنها تشكل تهديدا للجميع.

كما شرح له خطورة الصراعات الهامشية على دول وشعوب المنطقة وتأثير ذلك على مستقبلنا جميعاً، كما تحدث الرئيس عن قيام السعودية ودول الخليج بالاعتراف بالثورة الإسلامية في إيران ومد يد التعاون لها… كما أبلغ الرئيس الأسد الوزير الإيراني رغبة المملكة في التعاون… وقد مدت الدول الخليجية الأخرى أيديها، وفتحت قلوبها للثورة الإسلامية، وكيف أراد العرب أن يتعاونوا مع هذه الثورة، وكيف كانت تصدر تصريحات من طهران ضدهم… وزاد الرئيس الأسد عن الانطباع الذي تولد بأن إيران تعمل للتدخل في شؤونهم (الدول الخليجية) الداخلية، وأن لها مطامع في المنطقة، وهذا الأمر خطير سيزيد الخلافات، ويعمقها ويجعل هذه الدول تفكر كيف تواجه هذا الوضع، وأعطى الرئيس أمثلة لما جرى في موسم الحج وأحداث البحرين، كما تحدث عن الأجواء الإعلامية وتصريحات مسؤولين إيرانيين وغيره”.

ويقول خدام في أوراقه: “قاطعني الأمير فهد بقوله: إن هذه التصريحات التي طلعوا بها علينا تحرض على الفتنة والاختلاف بين المسلمين وتضر بالعقيدة الإسلامية… وكذلك ما ينشر في الصحف والإذاعة ووسائل الإعلام المختلفة وما فعلوه في الحرم الشريف في موسم الحج وإلقائهم خطابات لا تليق بقدسية المكان لدى المسلمين ولدى الثورة الإيرانية”.

ويتابع خدام أن ولايتي قال: “نحن لدينا رغبة في إقامة علاقات طبيعية ولكن هذه الدول تساعد في الحرب ضدنا. وهنا رد عليه الأسد: قناعتنا أن الإخوة في المملكة ودول الخليج يريدون أن تكون علاقاتهم إيجابية معكم لا سلبية، وأن المسألة لا تتعلق بهم وحدهم، وأنهم يرغبون في وجود أجواء إيجابية مع إيران”.

مبادرة إيرانية نحو السعودية

حسب وثيقة أخرى، نقل خدام إلى الجانب السعودي نقاطا محددة وافق عليها ولايتي أمام الأسد، وهي:

  1. رغبة الإيرانيين في إقامة علاقات طبيعية وحسنة مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج.
  2. عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة من دول المنطقة، وعدم وجود علاقة بين الحكومة الإيرانية ومؤسساتها أو أي مسؤول فيها بأمور البحرين. وأكد أيضا أنه لا أطماع لهم في أي من البلدان المجاورة، وأن لديهم رغبة في إقامة علاقات حسنة مع المملكة ودول الخليج.
  3. بالنسبة لموسم الحج، قال إنهم لم يفعلوا شيئا يمس السيادة السعودية أو الشؤون الداخلية للسعودية، وأنهم فقط أطلقوا شعارات عداء لأميركا وإسرائيل، ولكن الموظفين السعوديين منعوهم. وقال إن هذه الشعارات لم تكن ضد السعودية، وإنما فقط من أجل استغلال فرصة اجتماع المسلمين من مختلف البلاد لتوعيتهم بأن عدوهم الأول هو أميركا وإسرائيل، ولحثهم على توجيه جهودهم ضد هذا العدو”.

    ويروي خدام أن الأسد علق على النقطة الأخيرة أمام ولايتي، قائلا: “إن ذلك يحدث تشويشا، فإذا شاءت كل دولة أو مجموعة أن تطرح شعارات في موسم الحج حسبما تريد، فتصور مليون شخص أمامك، ماذا يحـدث؟ إذا عمل كل امرئ كما يشاء ماذا سيحدث في موسم الحج؟ كيف يكون الوضع؟ فوضى كبيرة لا أحد يعرف مدى أثرها السيئ على المسلمين”.

رد ولايتي بأنهم “مستعدون لوقف الحملات الإعلامية من المؤسسات التي تسيطر عليها الدولة، أي من وسائل الإعلام الحكومية”.

وزاد: “الآراء الرسمية للثورة الإسلامية الإيرانية لا يعبر عنها إلا (المرشد) الخميني أو رئيس الجمهورية (علي خامنئي) أو نائب رئيس الوزراء (صادق طبطبائي) أو وزير الخارجية (ولايتي)”. وأكد استعداد إيران لإرسال بعثة حسن نوايا إلى كل من المملكة العربية السعودية ودول الخليج، واستقبال بعثات مماثلة في طهران.

في المقابل، طلب الإيرانيون من السعوديين، حسب خدام، “وقف التدخل في الحرب إلى جانب العراق”، فيما قال الأسد إنه سيبلغ السعودية مضمون هذه المحادثات، و”نأمل أن نتمكن من إخبارهم بأن لديكم الرغبة وموافقون لنطلب منهم مباشرة تنفيذ هذه الخطوة للتدليل على حسن النوايا”.

وأشار خدام إلى أن الرياض أبلغته بأنها “تتفق مع هذا الخط لتلافي الصدام والتوتر في المنطقة، وهذا تصور ممتاز أمام الأمر الواقع” مع الارتياح لرسالة الأسد وجهوده، والرغبة في استمرارها.
ونقل خدام، في اليوم الثاني، رسائل مشابهة إلى أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد بحضور وزير خارجيته الشيخ صباح.

عتب سعودي علـى صدام

التقدير الرسمي السوري وقتذاك، حسب وثيقة تقدير موقف بخط خدام، كانت بين أوراقه السرية، وهو أن هناك “قلقا لدى الأشقاء في الخليج واحتمالات خطيرة لتطور الأوضاع في حال تطور النزاع وامتداده وانعكاس ذلك على كل العرب والإيرانيين”، ذلك أن “الحرب تدور على حدودهم وفي مياههم أحيانا، وقد تصوروا أن النظام العراقي في حربه قادر على ردع الثورة الإسلامية والقضاء عليها، وبالتالي قدموا إلى نظام الحكم في العراق مساعدات مالية واقتصادية وتسهيلات، بما في ذلك استخدام المرافئ لنقل البضائع والتجهيزات وغيرها”، إضافة إلى قلقهم من “الثورة” في إيران لأسباب تتعلق بالأمن القومي ومستقبلها.

وأوردت وثيقة أخرى للقاء بين وزير الإعلام السوري أحمد إسكندر مع مسؤول سعودي في فبراير 1983، أن “العراقيين يطلبون (منا كخليجيين) تنفيذ اتفاقية الدفاع العربي المشترك، وقلنا لهم مباشرة: تطلبون أن نقاتل معكم، لكن هل استشرتمونا في بدء الحرب؟ هل أطلعتم أحداً من العرب على خطتكم لمحاربة إيران؟ ألم تكن هناك طرق أفضل وأكثر ضمانا من الحرب المدمرة؟ لو استشرتم لكنا بحثنا طريقا لحل النزاع دون قتال وتدمير وتضحيات، لقد ذهب صدام ووسط الجزائريين لتوقيع اتفاق سلام مع الشاه الإيراني، ووقع الاتفاق عام 1975 ثم ألغى صدام هذا الاتفاق وشن الحرب، ويطلب الآن بعد سنتين من القتال العودة إلى اتفاق 1975. هل هذا منطق؟”.

ويتابع أن “العراقيين يوفدون وزراءهم لدول الخليج، ويطلبون منها عدم استقبال المبعوثين الإيرانيين، وهذا اضطرنا لأن نقول لهم ليس لكم حق في ذلك، وبأي حق تطلبون منها ما تطلبون، إننا نفهم جيدا علاقة سوريا بالعراق، وأن الحق معكم في سوريا، فقد أساءوا إليكم كثيرا وبغير حق. لو كنا نثق بصدام، ونضمنه لكنا اقترحنا عليكم شكلا من أشكال الوفاق أو تهدئة الأمور، لكننا نعرف أن هذا غير ممكن، فقد أساء صدام إلى سوريا كثيرا، ونحن نعرف أنكم في بداية الحرب وحتى انقضاء عام ونصف، كما أذكر، لم تتحركوا ضد العراق بأي عمل، ونعرف أنكم لم تكونوا تريدون هذه الحرب، ولا نحن نريدها”.

وفي إشارة إلى الاجتماع الثلاثي السوري الليبي الإيراني، قال المسؤول: “نحن نثق بسوريا وثقتنا لا حد لها، ولا نسمح لأي شيء أن يشوب أو يعكر هذه الثقة، نحن نتشاور معكم وثقتنا مطلقة في الأخ حافظ، وفي سوريا تحت قيادته. وإني أقترح على الرئيس الأسد أن يدعو سفراء الخليج إلى الخارجية السورية لشرح موقف سوريا من الاجتماع الثلاثي، وأنه ضد أي أحد يقترب من حدود دول الخليج”.

وبالفعل، بناء على توجيه من الأسد، استدعى خدام السفراء، وأوضح موقف دمشق لطمأنة دول الخليج أنه ليس ضدها.

هذا المحتوى من مجلة “المجلة”*

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *