سينمائيون مغاربة يناقشون “التخييل في السينما والتاريخ”

سينمائيون مغاربة يناقشون “التخييل في السينما والتاريخ”

كان المونتاج السينمائي قَبلَ المخرج والمونتير الروسي سيرغي أيزنشتاين، يعتمد على الزمن التراتبي، أي السردي كما في الروايات. نَشرَ أيزنشتاين مقالاً بعنوان “مونتاج التجاذب” عام 1923، وضّح فيه فكرته الثورية في المونتاج، معتمِداً على أسلوب التصادم بين اللقطات، أو مونتاج “الصدمة”، ما يجعل المتفرّج منفعلاً وتحت تأثير الفيلم مباشرة. 

“مونتاج الصدمة” يعني، التخلّي عن السرد الروائي أو التتابع النسقي للقطات، وصولاً إلى نتيجة أخرى تحققّها الصدمة؛ هناك مشهد في فيلمه الشهير”المدرّعة بوتيومكين” (اعتبر من أفضل الأفلام السينمائية آنذاك)، يَظهر فيه حساء البحّارة مملوءاً بالحشرات، فينتقل المخرج مباشرة إلى أحداث ثورة  ديسمبر 1905، أي الثورة نتيجة صدمة الاستخفاف بـ “طعام البحّارة”. 

تاركوفسكي وشعرية الزمن

 جاء المخرج الروسي الشهير تاركوفسكي بمفهوم آخر للمونتاج، (من أفلامه “المرآة”، و”طفولة إيفان”)، هو غير السردي وغير الصدمة التي أرساها أيزنشتاين، معتمداً على كثافة الزمن في اللقطات، مانحاً للفيلم إيقاعه، ليس عن طريق تتابع أو تصادم اللقطات مونتاجياً، بل عبر تجاوز الزمن الناتج عن  المونتاج السينمائي، إلى الزمن الذي يكوّنه المخرج داخل اللقطة.

يرتكز مفهوم تاركوفسكي على تطوير المشهد من داخل اللقطة ذاتها المشحونة بالرموز، وباستخدام المؤثّرات البصرية، فيتداخل ضوء النهار مع الليل مع الفجر في اللقطة الواحدة، والأهم هنا، لا يتمّ ذلك عن طريق المونتاج.

النحت في الزمن

 يتمدّد الزمن في اللقطة كلّها، ويحدّد الانتقال إلى المشهد التالي، بما يسمّى الزمن الفلسفي، مستعملاً إياه بشكل شاعري، فيستطيع المتفرّج أن يتفاعل مع  أفلام تاركوفسكي، من دون أن يعرف اللغة الروسية.

 السينما بوصفها فناً، تجعل من تقديم الزمن في أشكاله وتجلّياته الواقعية فكرتها الأسمى، وفعاليتها تكمن في الاستيلاء على زمن كامل يتضمّن الواقع المادي الذي يقيّد الزمن.

 يقول المخرج والباحث في جماليات السينما ليث عبد الأمير عن شِعرية السينما (لدى تاركوفسكي) : “الزمن بمفهومه الفلسفي والشعري، هو العنصر الأساس في الإيقاع، وهو ما يجعله شكلاً مرئياً من الواقع، ويثبّته في شريط الفيلم، من خلال العلامات الخارجية القابلة للاستقبال عن طريق الإحساس”.

الزمن السينمائي

 الزمن لا يعني تسلسل الأحداث (سردية الروايات)، بل هو مُتخيّل، يدعو البشر إلى الاشتغال عليه جمالياً واقتصادياً وفلسفياً: الموت والخلود. يقول علاء عبد العزيز في “الفيلم بين اللغة والنصّ”، السينما أقدر الفنون على تقديم الزمن ومروره بشكل مرئي”.

 هكذا، ذهبت الأوراق النقدية التي قدّمها النقّاد السينمائيون في ندوة مهرجان السينما والتاريخ، في كلية اللغات في مدينة مراكش، تحت عنوان “التخييل في السينما والتاريخ”، إلى البحث في الزمن مباشرة، وفي التاريخ بوصفه متخيّلاً سينمائياً. 

شارك في الندوة حسن نرايس، بو بكر الحيحي، محمد البوعيادي، عبد الجليل لبويري، بوشتى المشروح، تسيير الكاتب والمترجم محمد آيت لعميم، والناقد السينمائي محمد أشويكة. 

 التاريخ والسينما يسعيان إلى إعادة القبض على الزمن، بطرق مختلفة، فالفيلم السينمائي يعبّر عن روح العصر، وعن تفاصيل الحياة اليومية حتى ولو اعتمد الحدث التاريخي خلفية له، لأنه يسعى من ورائها إلى تقديم نظرة خاصة تنتمي لروح اللحظة.

 فالزمن الواقعي يتم بناؤه عبر الزمن السينمائي. ولا تكتفي السينما بالاعتماد على التاريخ مرّة واحدة، بل تتعدّد الافلام حول الواقعة الواحدة، كما هو الشأن مع الأفلام العالمية حول الحرب العالمية الأولى والثانية والحرب الباردة، لأن السينما تعيد إنتاج هذه المادة التاريخية من منظورات مختلفة محكومة بتعدد القراءة.

سوسيولوجيا الخطاب السينمائي

مدير المهرجان الشاعر مصطفى غلمان قال لـ”الشرق”، “إن مقاربتنا للحقل السينمائي من هذا المنظور، سيوقد نيران أسئلة في سوسيولوجيا الخطاب السينمائي، وفي أبعاد تشاكل الثقافة السينمائية بالمعارف ذات الاتصال بالحقول المتقاطعة”.

السينما تُغني التاريخ

كتبَ الراحل نور الدين الصايل، مدير المركز السينمائي المغربي حينها، والمنظّر في السينما “أن التاريخ لا يُغني السينما، بل السينما تُغني التاريخ، فهي  تدفع المؤرّخ إلى تحسين تعامله مع السرد، لماذا؟ لأنّه لا سرد إلا إذا كان هناك زمن، وكأنّ الزمن هو الصورة القَبْلية، التي بدونها ليس هناك سرد” .

 إذاً ثمّة علاقة ما بين السرد والتاريخ والسينما من نقطة الزمن. التاريخ يسرد، والسينما تحكي أو تروي، مستعملة الرواية التي تحوّر زمنها، والنتيجة هي: زمن فلسفي نتيجة دمج زمَنين: (زمن الرواية وزمن الفيلم).

 يتعلّق ذلك بالتاريخ أيضاً، عندما تتناوله السينما كمتخيّل، وليس كسارد فقط؛ هنا تجتمع السينما بالتاريخ عبر التخييل عند مفهوم الزمن، الذي  يقول عنه الناقد بوشتى المجروح: “إنه من أعقد الظواهر التي عرفها الإنسان، نظراً لعلاقته الوثيقة بالحياة وبالكون، والارتباط البشري به قوي جداً، فالإنسان، هو مصدر الوعي بالزمن والشعور به، ومن دونه لا وجود للزمن”.

 المستقبل في زمن الماضي 

  الكاتب والمترجم وعضو اللجنة المُنظّمة للمهرجان محمد آيت لعميم قال لـ”الشرق”: يستحقّ تاريخ المغرب لِما له من حمولات حضارية وتاريخية، أن يتمّ تناوله سينمائياً، وفق العلاقة التخييلية من جانب السينما والتاريخ، وهذا التحدّي ينبغي طرحه ثقافياً وجمالياً، لذلك قرّرنا تنظيم هذه المبادرة الوطنية”.

 يحاول الأدب والفن تخليص التاريخ، باعتباره زمناً للماضي فقط، وكذلك بوصفه سارداً لا غير؛ يتمّ ذلك عبر استعمال الزمن الفلسفي كمصدر إبداعي، له دلالاته ورموزه وتأويلاته، الفن هو التأويل، متجاوزاً تجريدية الأشياء إلى دلالاتها، أي يخلّص الصورة والقصيدة واللوحة والمفهوم، من نمطية تمثّله مجرّداً”. 

حينما يقرأ الإنسان كتاباً أو يشاهد فيلماً، فهو يذهب إلى تأويله فلسفياً، أي إلى زمن الكتاب أو الفيلم الخاص به، وعلى هذا المنوال، لا يعني المستقبل الآتي فحسب من دون الماضي والحاضر، وهذا ما يبتغيه الأدب.

“لن يكتمل المعنى أو بالأحرى لن يتولّد إلّا عبر الثنائيات الضدية، التخييل عبر التقابلات الضدية، بحسب الناقد أبو بكر الحيحي.

علاقة شائكة أرشيفياً وسينمائياً 

تبدو علاقة الأدب والفن بالتاريخ معقدّة، تحمل إكراهات وموانع كثيرة؛ من الحصول على الوثيقة التاريخية، إلى تمثّلها أدبياً. وتزداد صعوبة، إذا تمّ تخيّل التاريخ وأحداثه خارج السياق السائد، هنا يبدأ التصادم وتشتدّ الخلافات؛ يريد الفن أن يخرّج التاريخ من سياق المؤّرخين والسجلات والتدوين، فيبحث عن “جينالوجيا” النصوص والمرويات والحوادث؛ إذ لكل نصّ سلالة تكوّنه، ثمّ تفرض وجوده. 

يتحدّث الناقد السينمائي محمد أشويكة عن الإكراهات والاشتراطات قائلاً: “أردنا النبش في العلاقة ما بين السينما والتاريخ من باب التخييل؛ تسهم السينما أحياناً بأنسنة الشخصيات التاريخية المعروفة بالصرامة والبطش. نواجه هنا مسألة الحصول على الوثيقة التاريخية في ما يتعلّق مثلاً بالسينما الكولونيالية، فضلاً عن عدم توفّر الميزانية الضخمة لإنتاج الأعمال التاريخية، وتردّد كُتّاب السيناريو في خوض المسكوت عنه”.

في هذا السياق يقول الناقد محمد البوعيادي، “من بين الخلاصات التي انتهينا إليها، هي أن تخيّل التاريخ الاستعماري في الفيلم المغربي، تمّ انطلاقاً من مقاربتين مختلفتين، الأولى تماهت مع المستعمر وأعادت إنتاج خطابه وأطروحته، فيما تبنّت الثانية موقفاً ما بعد كولونيالياً، إذ تجلّى بالأساس في تقويض الأسس النظرية للمشروع الاستعماري”.

السينما تؤرّخ مرئياً

يُثير الناقد السينمائي حسن نرايس سؤالاً حول “كيف تحكي السينما التاريخ بأحداثه وشخصياته؟ وهو يعتبر الزمن علامة، وفكرة البناء الزمني لا بدّ أن تنسجم  مع شكل السرد السينمائي المرتبط بنسبية الزمن، إذ يفرض ايقاعاً سردياً متناغماً كالفلاش باك والتوضيب، من دون نسيان أهمية الحوار”.

لا يوافق المؤّرخ على التاريخ بوصفه سجلات وأحداثاً على سجيتها، إذ حتى التضاريس والبحيرات، تكوّنت نتيجة لعوامل فيزيائية وجيولوجية، فما بالك بالنصوص والأحداث؟ 

يقول الناقد عبد الجليل البويري: “ما جدوى التاريخ من دون الفن والأدب؟ هكذا يتمّ اعتبار السينما مؤّرخة رغماً عنها سواء في تعاملها مع الحاضر أو الماضي، وهو ما يفيد بأن الفيلم لا يحيل إلا إلى ذوات صناعة العقليات التي أنتجته، كما في  بعض الأفلام التي تلتحف بالتاريخي لقراءة الحاضر، هروباً من الرقابة”. 

إنّ الحياة تُقلّد الفن، وهو، ليس بمنأى عن تشكيلها والإسهام بالمستقبل كذلك، مثلما تتحكّم التقنية راهناً بالأذواق والأدب، عبر برامج الترجمة والكتابة والذكاء الاصطناعي، بما يمكن أن نسمّيه الوجود تقنياً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *