” بالحجم الطبيعي” للإيطالي دو لوكا.. في تبنّي الأبوة
إيري دو لوكا هو أبرز كاتب إيطالي من القرن العشرين ما يزال على قيد الحياة. هو شهير ليس فقط بقصصه ورواياته المترجمة إلى نحو ثلاثين لغة، ولكن بنمط حياته الفريد أيضاً، الذي وظّفه بإسهاب وبألق في كتاباته.
في سن الثامنة عشرة، غادر بيته وحياة اليُسر في مدينته نابولي، ليعمل لفترة عامل بناء، ما مكّنه بعد ذلك من بناء منزله بيديه في البادية. التحق بالحركات العمالية والاحتجاجية ذات الطابع العالمي، التي عرفتها إيطاليا في ستينيات القرن الماضي، ومارس هواية المشي على الدوام، وخصوصاً رياضة تسلّق جبال الدولوميت.
يقول بهذا الصدد: “قمّة الجبل هي محور اهتمامي، ومن الجميل بالنسبة لي أنها تتطابق مع السماء.. القمّة التي يتمّ الوصول إليها هي الحدّ الفاصل بين المحدود والهائل”.
لكلّ هذه العوامل، لم تتردّد دار “غاليمار” للنشر، من إفراد منشورات “كوارتو” الفخمة الشاملة، مخصّصة بالكامل لأهم إصدارته، وتتضمن 15 رواية وقصصاً وقصائد ومسرحيات، مرفقة بنصوص وكتابات غير منشورة.
حدث ذلك بالتزامن مع ترجمة آخر كتبه بعنوان “بالحجم الطبيعي” (2023)، وهو كتاب استعار عنوانه من عالم الفنون البصرية والتشكيلية. يتناول فيه العلاقات المُتخفّية بين الآباء وأبنائهم، المُتّسمة بالتطرّف والشدّ في حالات كثيرة.
هذه العلاقات التي يرمز إليها بحَبْلٍ هما طرفاها، فيعيدها إلى “حجمها الطبيعي”، وذلك عبر تساؤلاته الفلسفية والفكرية العميقة الدلالات، والمتجسّدة على شكل قصص حول حيوات الآباء وموتهم، ومدى تأثير اختياراتهم الشخصية على مستقبل أبنائهم. إذ يوجد هناك صَدع دائم في المكان والزمان، بين الأب والأبن “حتى ولو كانا يعيشان تحت سقف واحد”.
لأنني لم أُرزق بولد، بقيت ابناً
يقول في مقدّمة الكتاب: “في هذه الصفحات، أجمع قصصاً متطرّفة عن الآباء والأبناء. أنا نصف غريب: لم أكن قط أباً، لكني بالضرورة ابن، وقد بقيت كذلك “.
إن مسألة عدم الإنجاب، لم تجعله يتخطّى عتبة وضعية الابن الأبدي، الشيء الذي مَكّنه من تحويلها الى مَوْقِف، والحديث عنها بإدراك خاص، تحديداً لانعدام حالة الأبوّة لديه.
عن العلاقة بينهما يقول: “ولأنني لم أكن أباً، بقيت بالضرورة ابناً. لم أجرّب المسؤولية والحماية والتربية. وبالتالي لست مضطراً لأغير تصرّفاتي مع أي شاب، أو أي شخص كبير في السن. فوضعيتي كابن تجعلهم يبدون متساوين مع معاصريهم”.
يقول هذا الشيخ البالغ 72 عاماً، “إن الانعكاس الأوّل لعدم إنجابه ولداً، هو عدم وجود من يتمرّد عليه ويقتله رمزياً، في ما يصطلح عليه بصراع الأجيال.
هي قضية عُقد كتلك التي توجد في علم الرياضيات، ولتجاوزها لا بد من حلّها. في العلاقة بين الأب والابن، يتوجَّب فكّها، ولا يتمّ ذلك إلا بتحوّل الابن إلى أب بدوره!
وإيرّي دي لوكا يبيّن ذلك من خلال الكتابة الحكائية لتسع قصص عن تسع مصائر لابن أو ابنة تجاه أب، عبر حالات مختلفة مُنتقاة من واقع أشخاص عاديين، أو شخصيات معروفة. تُحلّل كل قصة التمزّق أو الإنكار، أو الجحود، أو الاستعادة، وفي أقل الأحوال التمرّد العادي الذي يفرض استقلال الابن عن الأب.
الرسام شاغال واستعادة الأب فنياً
أبرز علاقة من هذا النوع، تناولها إيرّي دي لوكا في قصّة الفنان التشكيلي الفرنسي ذي الأصل البيلوروسي، الذي قام باستعادة ذكرى أبيه برسم بورتريه له بالحجم الطبيعي.
رسمٌ يمثّل برأيه “صراعاً بين وجه الأب وفرشاة الابن”، وهكذا استحضره شاغال أمامه، عبر ما ترسّب في ذاكرته التي لم تُسْعِفه كثيراً، ما عمّق إحساسه بفقد عظيم، نتيجة نَدمٍ انتابه بعد أن تركه خلفه وسافر إلى باريس البعيدة.
هنا يقرأ الكاتب اللوحة بشكل سردي، متحدثاً عما تتضمّنه من خلال رمزية الألوان. يقول :”شاغال على وشك أن يلقي بالفرشاة، فيشدّ عليها ويده معلقة في الهواء. لا يتمكّن من وضعها على اللوحة اللامعة بطلاء زيتي تحت نور الشموع.
وعوض أن يضعها على ركبته ويكسرها بضربة واحدة، سمع صوتاً يناديه من غرفة مجاورة. لم يجب شاغال. بل توقف واقترب من اللوحة، وحيث كان يجب أن يرى وجه والده، في هذه المساحة البيضاء، وضع قبلة.
ها هو يراه الآن من خلال دموعه التي تسيل، ها قد أعلن له حبّه وتمكّن من رسمه مستلهماً رائحة سمك الرنجة، التي كان يصطادها ليلاً في بحر البلطيق، ومثَّلَها بدائرتين حمراوين تحيطان بعينيه في البورتريه، مُتجنّباً رسم يديه الخشنتين، المليئتين بالشقوق التي تُحدثها عملية جرّ شباك الصيد والبرد الجليدي.
خطيئة الجندي وخيار الرفض
ثم هناك قصّة المرأة التي اكتشفت في سن متقدّمة، أن من كانت تعتبره جدّها، هو في الحقيقة والدها، وكان جندياً نازياً ومجرم حرب. هذا الأخير يؤكد بأن الخطيئة الوحيدة التي اقترفها هي هزيمته في الحرب العالمية الثانية، “لأن الانتصار يبرّر كل شيء “.
لكنها تتراءى لها في يديه النظيفتين الهادئتين، عبارة عن لطخات من الدم، وتهاب أن تكون مُعديّة بالوراثة. “فالدم له صوت، إنه يصرخ، مما يُجبر القاتل على إسكاته”.
تقرّر الفتاة محو ماضيها بالكامل وإرثها الثقيل، الأمر الذي يضعها أمام خيارٍ واحدٍ تماماً: رفضها أن تكون أماً إلى الأبد، أي عدم الانجاب، كي لا تُوَرّث الحقد، وكي لا تنتقل خطيئة الأب الى الأحفاد. بهذه الطريقة الجذرية المتطرفة فكّت القيد نهائياً.
التضحية والقطيعة
بين هاتين القصّتين البارزتين، يستحضر إيرِّي دي لوكا تضحية النبي إبراهيم عليه السلام بابنه الذبيح. وهي القصّة التي يرى فيها الأثر الأوّل، وأصل الصلة ما بين الأب والابن، وسِمَتُها هي رِضَى النبي الذبيح بالتضحية.
يورد إيرِّي دي لوكا القصّة مُعمِّقاً أثرها بأسلوبه المتميّز السلس، هو الذي قرأ النص الأصلي بعبرية أوروبا الشرقية، كي يتحقّق له الفهم الأوّل الواضح من المصدر.
لكن المثير، أنه هو الكاتب اختار عكس ذلك، أي التضحية، فحَكَى في ثنايا الكتاب القطيعة التي أحدثها مع والده هو. ويروي ذلك في قصّة “درس التوفير”، مستعيداً كيف عصى أمر والده الذي كان يَودّ أن يحصل على وظيفة حكومية، ويحيا مثله في هناء، بعيداً عن الفقر الذي كان يقف عند عتبة باب منزل والديه ولا يجتازها.
لكن الكاتب خلال مراهقته تجاوزها في الاتجاه الآخر، وتمرّد مُفضّلاً تجربة الانفصال عن هذا الأب الذي، برغم كل شيء، كان وراء تعلقه بهواية تسلق الجبال. و
يورد الكاتب صورة بليغة للفراق، متحدّثاًع ن قميص مَزّقهُ الأب من شدّة الحزن، وما زال صدى التمزّق يتردّد في آذان الكاتب بعد ستين سنة، وقد صار شيخاً بدوره، كما لو كان ذلك صوت الخيانة، خيانة الأب.
وعلى غرار الفنان مارك شاغال، تذكّره، ليس باستحضاره، ولكن بلقائه شهوراً قبل وفاته، وقد صار شيخاً أعمى، بعد نشره لكتابه الأوّل. وللتكفير عن ذنب المعصية، وضعه بين يديه، “فتكوّنت صورة مختلفة عن هذا الابن شبه المفقود، بداية في سنوات التحرّك الثوري، ثم خلال سنوات اشتغاله كعنصر من عناصر أخرى ضمن الطبقة العاملة”.
الكتابة كمرادف للحياة
الحقيقة التي فصّلها بشكل ساطع إيري دو لوكا هنا، هي أن بإمكان المرء أن يتبنّى الأبوّة إذا تعذّر عليه أن يتحمّل إرثها. وهو يفعل ذلك بتوخّي كتابة مُقتضبة لكن صافية، عبر كلمات قليلة لكن عميقة، وانطلاقاً من معرفة واسعة باللغات والأصول والكتب الكبرى الدينية والأدبية والفكرية، قراءةً واطلاعاً، وليس أكاديمياً.
وبتزامن ضروري لا بد منه مع اختيار الغوص في وحل الحياة ومطبّاتها تارة، ناشداً العدالة الإنسانية ومساهماً في تحقيقها، والبحث عن الخلاص الروحي والهناء الجسدي تارةً أخرى. أي بخلاصةٍ مُعبّرةٍ، تلبية نداء الروحاني الموروث والمُستمرّ فينا بالمُجاهدة الحقيقية، على الأرض فعلاً وموقفاً، من دون التعلق بأوهام العظمة الزائفة.
“في العواصف العاطفية، في كوب من الماء أو في المحيط، لا نصبح أكبر أو أصغر من أولئك الذين سبقونا. بل ينتهي بنا الأمر بأن نجد أنفسنا في صورة بالحجم الطبيعي.”